رأي إعلامي الوثائق لا تصنع الجيوش
أ/ شاذلي عبدالسلام محمد
بين القوة والورق
في عالم السياسة، حيث الكلمات تسبق الأفعال، وحيث الوثائق تحاول أن تروض التاريخ، يقف العسكري المخضرم في مواجهة الساسة الحالمين، يقرأ أوراقهم ثم يبتسم…
تلك الابتسامة ليست عابرة، وليست سخرية محضة، وإنما هي فلسفة القوة حين تواجه وهم الورق، وهي دهاء القائد حين يرى في عيون خصومه هزيمتهم قبل أن يعلنوها…
عزيزي القارئ، حين رفع الفريق أول عبد الفتاح البرهان الوثيقة التي قُدمت إليه من القوى السياسية، لم يكن ينظر إليها كعقد اجتماعي متين، بل كرقعة أخرى من رقع التفاوض العبثي، كأنها ورقة كتبها طلاب سياسة ما زالوا يتدربون على رسم الخرائط، لا رجال دولة يدركون أن القرار لا يكتب بالحبر بل يُحفر على أرض الواقع.
تصفحها سريعًا ثم قال بتهكم:
“شايفكم لسه عندكم كمية من ورش العمل…”
عبارة قصيرة، لكنها تحمل فلسفة كاملة عن صراع السلطة في السودان، وعن الفجوة بين من يملك القرار ومن يحاول أن يصنعه نظريًا.
حقيقة السلطة
السياسة، كما يتخيلها بعض الحالمين، لعبة وثائق ومواثيق، مؤتمرات وورش عمل، خطابات مطولة واجتماعات لا تنتهي.
أما الجيوش، فهي الميدان الفعلي حيث تختبر هذه النظريات، وحيث تسقط الشعارات الزائفة، وتبقى فقط الحقائق المجردة:
من يملك الأرض؟ من يسيطر على السلاح؟ من يستطيع أن يفرض إرادته على الأحداث؟
حين قال البرهان: “شايفكم لسه عندكم كمية من ورش العمل”، لم يكن ذلك مجرد تعليق عابر، بل كان كشفًا عميقًا لحالة من العجز السياسي، حيث يحاول البعض استبدال القوة الفعلية بالنقاشات النظرية، واستبدال الحضور الميداني بالاجتماعات المغلقة، وكأن الدولة يمكن أن تُبنى في قاعات مكيفة، بعيدًا عن ميادين الصراع الحقيقي…
إنها ليست مجرد مقارنة بين السياسة والعسكرية، بل بين من يفهم موازين القوى ومن يعيش في وهم التوازنات الورقية. الجيش، كما يدرك البرهان، لا يُدار بالوثائق، بل بالقرارات الحاسمة، لا يتحرك وفق بيانات المؤتمرات الصحفية، بل وفق معطيات الأرض، لا يعترف بـ”ورش العمل” كأداة لتحديد مصير الوطن، بل بمن يملك القدرة على حمايته وإدارته.
القوة تسبق الورق
منذ قرون، كانت السياسة تُدار بحد السيف قبل أن تُدار بالقوانين، وكانت الدولة تُبنى بالإرادة الصلبة قبل أن تُنظم في دساتير مكتوبة.
والواقع أن السودان، رغم كل محاولات “التأطير الديمقراطي”، لا يزال في مرحلة حيث القوة تسبق الورق، وحيث الوثائق تُكتب كجزء من اللعبة، لا كحقيقة ملزمة لمن يملك الأمر والنهي.
فهل يمكن أن تحل ورشة عمل مكان قيادة ميدانية؟
وهل يستطيع بيان سياسي أن يلغي ميزان القوة على الأرض؟
بالتأكيد لا…
حين رفع البرهان الوثيقة، لم يكن يرفضها فقط، بل كان يُعلن بشكل غير مباشر أن منطق السلطة لا يُصاغ في الغرف المغلقة، بل في ساحات القرار الحقيقية.
تلك اللحظة لم تكن مجرد استعراض سياسي، بل كانت رسالة إلى من يتوهمون أن “الورق” قادر على هزيمة من يملكون القدرة على الفعل…
مناورة ذكية
في فن القيادة، هناك استراتيجيات متعددة للتعامل مع الخصوم.
إحدى هذه الاستراتيجيات هي تركهم يضيعون وقتهم في تفاصيل لا قيمة لها، بينما يمضي القائد الحقيقي في صناعة الأحداث.
البرهان، بفطنة القائد العسكري، يدرك أن كثرة “ورش العمل” ليست سوى علامة على انعدام القرار، وأن من يغرق في التفاصيل هو في الحقيقة فاقد للقدرة على الإمساك بزمام الأمور.
إنها مناورة ذكية:
حين ينشغل خصومك بإعداد الوثائق، امنحهم مزيدًا من الوقت، دعهم يكتبون ويجتمعون، يناقشون ويختلفون، بينما أنت تمضي في تثبيت أقدامك حيث يجب أن تكون.
وفي النهاية، حين ينتهون من كتابة ميثاقهم الأخير، سيجدون أن الأرض قد تحركت من تحتهم، وأن القوة لم تكن تنتظر توقيعاتهم، بل كانت تصنع مستقبلها بنفسها…
الرسالة واضحة
الرسالة التي حملها خطاب البرهان كانت واضحة:
لا مستقبل لمشروع سياسي يعتمد على الورق وحده. لا مكان لقوى لا تدرك أن القرارات تُصنع بالفعل، وليس بالنقاشات غير المنتهية. السودان، في هذه اللحظة التاريخية، لا يحتاج إلى مزيد من الورش، بل يحتاج إلى قيادة تعرف كيف تضع النقاط على الحروف، وكيف تحول الشعارات إلى حقائق.
وحين يبتسم البرهان وهو يتصفح الوثيقة، فهو لا يسخر منها، بقدر ما يشفق على من يعتقدون أن مستقبل الدولة يُصاغ في ورش عملهم…
الواقع أكثر تعقيدًا، والقرار ليس في النصوص، بل فيمن يملك القوة لفعل ما هو أبعد من النصوص…
الخاتمة
بينما ينشغل البعض بإعداد وثيقتهم القادمة، يمضي القائد في صناعة واقع جديد…
حيث لا صوت يعلو فوق صوت الفعل…
إلى أن نلتقي…
٩ فبراير ٢٠٢٥م
اضغط هنا للإنضمام الي مجموعاتنا في واتساب