جلد ما جلدك جر فيهو الشوك
أ/ شاذلي عبدالسلام محمد
في خضم الأزمات الكبرى، يصبح التصريح السياسي أكثر من مجرد كلمات تلقى في الهواء، بل يتحول إلى مرآة تعكس النوايا، وتفضح المواقف، وتعيد رسم خرائط المصالح. فتَصريح رئيس الوزراء الكيني حول الأزمة السودانية يثير تساؤلات لا تحسمها الإجابات الدبلوماسية وحدها، بل تحتاج إلى تأمل أعمق في فلسفة العلاقات بين الدول، حيث لا شيء يُمنح مجانًا، وكل موقف له ثمنه، سواء أُعلن عنه اليوم أو تُرك للزمن ليكشفه لاحقًا.
السياسة والمصالح.. لا عواطف في إدارة الدول
السياسة ليست عملًا خيريًا، ولا تُدار العواصم بحسن النوايا. من يظن أن كينيا أو غيرها تهتم فقط بمصير السودانيين من باب التضامن الإنساني فهو واهم. فالدول لا تتحرك بدافع العاطفة، بل بمنطق المصالح التي تتشابك مع اعتبارات استراتيجية، اقتصادية، وأمنية. فهل نيروبي طرف محايد فعلًا أم أنها تحاول إعادة تشكيل دورها كوسيط لا غنى عنه؟
هل لا تزال الأزمة السودانية بيد أبنائها؟
الطرح الذي قدمته بعض القوى في نيروبي يعيدنا إلى سؤال أساسي: هل الأزمة السودانية لا تزال بيد أبنائها أم أنها تحولت إلى ملف إقليمي ترسم خطوطه العريضة خارج حدوده؟ فالحديث عن “الاعتراف بأي نتائج تتوافق عليها الأطراف السودانية” يوحي بنوع من الحياد، لكنه في جوهره يعبر عن مقاربة تحمل في طياتها تأثيرًا سياسيًا غير مباشر. فالاعتراف، حتى وإن بدا موقفًا محايدًا، هو في الحقيقة أداة ضغط تمارس بقفازات ناعمة لإعادة ترتيب المشهد وفقًا لما تراه القوى الإقليمية والدولية مناسبًا.
السودان ساحة لصراع النفوذ الإقليمي والدولي
المشهد السوداني أصبح ساحة اختبار لمشاريع النفوذ الإقليمي، وما تطرحه نيروبي اليوم ليس إلا امتدادًا لمعادلة أكبر تتجاوز السودان نفسه. فالاستقطاب الدولي حول هذه الأزمة لم يعد خافيًا، إذ تتنافس العواصم على كسب النفوذ والتأثير، بينما يجد السودانيون أنفسهم رهائن لمشاريع الآخرين، يتفاوضون تحت مظلات ليست لهم، ويتلقون وعودًا قد لا تتحقق إلا وفقًا لحسابات لا علاقة لها بمصالحهم الحقيقية.
لطالما حاولت كينيا تقديم نفسها كدولة إقليمية ذات ثقل في حل النزاعات، بدءًا من أدوارها في جنوب السودان، مرورًا بالصومال، وليس انتهاءً بالسودان. لكن الوساطة الحقيقية لا تعني الانحياز الخفي أو محاولة فرض مسارات محددة تخدم أجندة معينة.
هل كينيا طرف محايد فعلًا؟
إذا كانت كينيا تقف فعلًا على الحياد، فلماذا تبدو وكأنها تمنح شرعية لمسار بعينه دون غيره؟ لماذا يُطرح الاعتراف بقرارات أطراف اجتمعت في نيروبي بينما يتم تجاهل قوى أخرى؟ أليس هذا انتقاءً يناقض مفهوم الحياد؟ أم أن الدور الكيني ليس إلا تجسيدًا لقاعدة “لا شيء يُمنح في السياسة دون مقابل”؟
كينيا والمصالح الاستراتيجية.. أين موقع السودان؟
لا يمكن فهم هذه التحركات بمعزل عن الموقع الجغرافي لكينيا ومصالحها الاقتصادية والأمنية. فالسودان بالنسبة لكينيا ليس مجرد جار في القارة، بل هو بوابة لمصالح استراتيجية تمتد إلى البحر الأحمر، حيث تتنافس القوى الإقليمية على النفوذ.
قد تبدو التصريحات السياسية أحيانًا وكأنها صادرة عن نية صافية، لكن في السياسة كل موقف يحمل بين طياته أجندة، حتى وإن لم تكن معلنة. فحينما تطرح كينيا نفسها كطرف داعم للحل السوداني، علينا أن نتساءل:
هل تفعل ذلك بدافع الحرص على السودان، أم أنها تتحرك وفق مصالحها الوطنية والإقليمية؟
الواقع يحدد المواقف وليس النوايا
المسألة هنا ليست في النوايا المُعلنة، بل في الأفعال التي ستتبع هذه التصريحات. فكيف ستترجم نيروبي موقفها هذا على أرض الواقع؟
هل ستدفع نحو توافق حقيقي بين الأطراف؟ أم أنها ستتحول إلى منصة تعيد تشكيل المشهد وفقًا لما يتناسب مع حساباتها الخاصة؟
إن قراءة السياسة بعين ساذجة تفضي إلى الوقوع في فخاخ الأوهام. فلا يوجد طرف خارجي سيتدخل في الشأن السوداني بلا مقابل. فكينيا تدرك أن السودان ليس مجرد أزمة محلية، بل هو ورقة على طاولة التنافس الإقليمي، حيث تتداخل المصالح بين دول الجوار والقوى الدولية، التي ترى في البحر الأحمر والممرات المائية الاستراتيجية عنصرًا بالغ الأهمية في رسم خريطة النفوذ المستقبلي.
“جلد ما جلدك جر فيهو الشوك”
هنا تحضر الحكمة الشعبية القديمة: “جلد ما جلدك جر فيهو الشوك”.
ليس من الحكمة أن تحرق أصابعك في معارك لا تملك فيها سوى دور المتفرج. فحينما تصبح خياراتك رهينة لمواضع أقدام الآخرين، فإنك تسلم مقود مصيرك لمن لا يشاركك الطريق أصلًا.
لا حلول خارجية دون رؤية داخلية صلبة
التعويل على مبادرات خارجية دون امتلاك رؤية داخلية صلبة لن يؤدي إلا إلى مزيد من التيه. فالقضية ليست في من يطرح الحلول، بل في من يتحكم بخيوطها. وبينما ينشغل السودانيون بصراعاتهم الداخلية، تتحرك الأطراف الإقليمية والدولية لرسم مسار قد لا يكون هو المسار الذي يخدم السودان فعلاً.
حينما تتصارع الفيلة، لا أحد يبكي على العشب
الدرس الأخير الذي يجب ألا يغيب عن الأذهان:
حينما تتصارع الفيلة، لا أحد يبكي على العشب.
وهذه ليست مجرد عبارة بلاغية، بل قانون سياسي ثابت. فالقوى الكبرى، سواء كانت دولًا أو تحالفات إقليمية، لا تهتم بمن يسحق تحت أقدامها وهي تتصارع على النفوذ.
الحل السوداني يجب أن يكون سودانيًا خالصًا
الحل السوداني يجب أن يكون سودانيًا خالصًا، وإلا فإن كل ما يجري لن يكون سوى إعادة تدوير للأزمة في أروقة العواصم الأجنبية، حيث تصاغ القرارات وفقًا لأجندات ليست بالضرورة في مصلحة السودان.
الخاتمة: لا قرارات بلا ثمن
في الختام، من لا يتحكم في مساره، لن يتحكم في مستقبله.
ومن يسلم قراره لغيره، عليه أن يستعد لدفع الثمن.
لأن في السياسة لا شيء يُمنح بلا مقابل، ولا أحد يبكي على العشب حين تتصارع الفيلة.
20 فبراير 2025م
اضغط هنا للإنضمام الي مجموعاتنا في واتساب