د. إسماعيل الحكيم يكتب.. الأحزاب السودانية بين البقاء والفناء السياسي

اسماعيل الحكيم

كشفت الحرب الدامية بين الجيش السوداني الوطني والمليشيات المتمردة عن حقيقة طالما تجاهلتها الأحزاب السياسية السودانية، وهي أن الشعب والدولة وحدهما يدفعان ثمن النضال والتضحيات، بينما تظل الأحزاب في عزلة عن القضايا الوطنية الحقيقية والوقائع التاريخية. هذه العزلة أفقدتها مصداقيتها أمام الجماهير، حيث انشغلت بصراعاتها الداخلية ومصالحها الحزبية الضيقة، بينما كانت مدن السودان تحترق، وبنيته التحتية تنهار، وأبناؤه يواجهون أسوأ الظروف الإنسانية.

اللحظة التاريخية وضرورة التحرك:

لم يعد هناك متسع للمزيد من التنظير السياسي والمواقف الرمادية، فإعادة إعمار السودان بعد الحرب ليست مسؤولية الجيش وحده، بل هي واجب وطني يقع على عاتق الجميع، وفي مقدمتهم الأحزاب السياسية. اللحظة الراهنة تمثل فرصة ذهبية لهذه الأحزاب للتصالح مع شعبها والانحياز إلى مشروع وطني جامع يعيد بناء ما دمرته الحرب، ويوحد الجبهة الداخلية خلف القوات المسلحة، التي قدمت التضحيات لحماية السودان من الانهيار.

الأحزاب السودانية اليوم أمام مفترق طرق حاسم: إما أن تكون جزءًا من عملية البناء واللحمة الوطنية، أو أن تستمر في سقوطها السياسي حتى تصبح بلا تأثير أو قيمة في المشهد السوداني الجديد.

دور الأحزاب في إعادة البناء:

على كل حزب سياسي أن يثبت قدرته على المساهمة الفاعلة في إعادة بناء السودان من خلال الخطوات التالية:

المشاركة في المبادرات الوطنية ودعم جهود الجيش والمجتمع المدني في إعادة بناء المدارس والمستشفيات والبنية التحتية. تحريك الكوادر الحزبية والمهنية للمساهمة بخبراتها في مجالات الاقتصاد، الهندسة، التعليم، والصحة، بدلاً من الاكتفاء بالتصريحات الإعلامية. تبني خطاب وطني موحد بعيدًا عن الجدل العقيم حول الشرعيات السياسية، والتركيز على بناء دولة قوية ومتماسكة. استقطاب الدعم الدولي والإقليمي وتوجيه العلاقات الخارجية لخدمة قضايا التنمية والإعمار، وليس لخدمة الأجندات الحزبية الضيقة. إطلاق مشاريع وطنية حقيقية مثل إعادة إعمار القرى المدمرة، وتوفير فرص العمل للشباب، وإعادة تأهيل النازحين. دروس من التاريخ:

التجارب العالمية أثبتت أن الأحزاب يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في إعادة بناء الدول بعد الأزمات والحروب، ومن أبرز الأمثلة:

ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث ساهمت الأحزاب السياسية، مثل الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي، في إعادة الإعمار من خلال دعم مشروع “مارشال” وتوجيه الاقتصاد نحو النمو والاستقرار. جنوب إفريقيا بعد الأبارتيد، حيث تبنت الأحزاب بقيادة نيلسون مانديلا مشروع المصالحة الوطنية وإعادة بناء الدولة، مما أنقذ البلاد من حرب أهلية. رواندا بعد الإبادة الجماعية عام 1994، حيث لعبت الأحزاب السياسية الوطنية دورًا أساسيًا في إعادة بناء الدولة، وترسيخ السلم الاجتماعي، مما جعل رواندا اليوم واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في إفريقيا. أين الأحزاب من حرب الكرامة؟

أثبتت الحرب أن الجيش والشعب في خندق واحد، حيث اصطف الشعب السوداني منذ اليوم الأول خلف جيشه الوطني، مقدمًا الدعم بالمال والرجال والفكر. لكن الأحزاب السياسية ظلت متأخرة عن هذا المشهد، بل غائبة عنه تمامًا، وغير مدركة أن السودان الجديد الذي يولد من رحم الحرب لن يقبل بالأحزاب التقليدية التي لا تملك مشروعًا وطنيًا حقيقيًا، ولا تتحمل مسؤولية أخلاقية تجاه وطن أثقلته الحروب لعقود.

إذا لم تستغل الأحزاب هذه اللحظة التاريخية، فستواجه مصيرًا محتومًا بالسقوط التام من ذاكرة السودانيين. أما إذا اختارت أن تكون جزءًا من إعادة الإعمار، فستستعيد ثقة الشارع، وستحفر اسمها في تاريخ السودان الحديث كفاعل حقيقي في بناء الدولة، لا كمتفرج أو متسلق سياسي.

سودان اليوم لا يحتاج شعارات الأحزاب، بل سواعدها. لا يحتاج بياناتها، بل أفعالها. لا يحتاج تشرذمها، بل وحدتها خلف الجيش والشعب. فهل تستجيب الأحزاب لنداء الوطن، أم تترك نفسها للفناء السياسي؟

اضغط هنا للإنضمام الي مجموعاتنا في واتساب

مقالات ذات صلة

77776

الشرق الأوسط على مفترق طرق

IMG 20241214 WA0001

فلسفة الواقع المر.. تشاد بين الجوار السيئ والمصالح الضيقة

شاذلي عبدالسلام محمد

شاذلي عبدالسلام محمد يكتب.. الوثائق لا تصنع الجيوش… والسلطة تُحسم في الميدان

اسماعيل الحكيم

تقدّم الجيش.. مجدٌ يُكتب بدماء الأبطال.. بقلم – د. إسماعيل الحكيم