أ/ شاذلي عبدالسلام محمد يكتب.. الهندسة المغيبة: شريان المؤسسات المنسي

شاذلي عبدالسلام محمد

رأي إعلامي
أ/ شاذلي عبدالسلام محمد
يجب أن تكون

🔹في كل مؤسسة ناجحة، هناك منظومة تعمل في الظل، تتحمل أعباء التشغيل، تصون البنية التحتية، وتضمن استمرار العجلة دون ضجيج. هذه المنظومة تتمثل في قطاع الخدمات والإدارات الهندسية الذي غالبًا ما يُتعامل معه كأنه مجرد ملحق إداري، بينما هو في الواقع الشريان الذي يمد المؤسسة بالحياة. المؤسف أن هذا القطاع، رغم أهميته، لا يحظى بالمكانة التي يستحقها، بل يتم تهميشه وتقليص دوره ليصبح أقرب إلى (الطوارئ الفنية) التي تُستدعى عند حدوث خلل فقط.

🔹إذا تأملنا المؤسسات الكبرى، حكومية كانت أو خاصة، سنجد أن الإدارات الهندسية والخدمية تُدار في كثير منها بمنطق إطفاء الحرائق لا بمنطق التخطيط الاستراتيجي. تُعامل كجهة تنفيذية تابعة لا ككيان مسؤول عن استدامة المؤسسة وتطوير بنيتها التحتية. والنتيجة؟ منشآت تعاني من التهالك بسبب غياب الرؤية الاستباقية ومشكلات متكررة يتم حلها بنفس الحلول المؤقتة دون محاولة لقطع دابرها من الجذور.

🔹الإدارة الهندسية والخدمية ليست مجرد قسم للصيانة أو التصليح، بل هي منظومة متكاملة مسؤولة عن التخطيط العمراني والتصميم الهندسي وفق معايير تضمن الكفاءة والاستدامة. كما تضطلع بدور أساسي في تنفيذ الصيانة الوقائية التي تمنع وقوع الأعطال قبل حدوثها. إضافة إلى ذلك، تشرف على إدارة الطاقة والبنية التحتية الذكية لضمان تشغيل اقتصادي وفعال، إلى جانب كونها مسؤولة عن التطوير المستمر عبر إدخال أحدث التقنيات التي تحسن جودة الخدمات وتقلل التكلفة التشغيلية.

🔹في المؤسسات المتقدمة، الإدارة الهندسية ليست جهة تنفيذية فقط، بل شريك استراتيجي في اتخاذ القرار، تشارك في رسم سياسات التشغيل، ولها صوت مسموع في عمليات التخطيط والتطوير. لكن في مؤسساتنا، للأسف، يتم تقزيم دورها وتحويلها إلى مجرد غرفة عمليات لإصلاح الأعطال دون إتاحة فرصة للإبداع أو التطوير.

🔹إذا كان هذا الوضع مقلقًا في المؤسسات عمومًا، فإنه أكثر خطورة في الجامعات، حيث يُفترض أن تكون الإدارة الهندسية والخدمية في قمة الاحترافية لأنها مسؤولة عن بيئة تؤثر مباشرة على جودة التعليم والبحث العلمي. لكن الواقع يقول غير ذلك. ففي كثير من الجامعات، تُعامل هذه الإدارات بروح البيروقراطية الجامدة دون فهم حقيقي لدورها الحيوي. مشاكل القاعات الدراسية، المعامل، أنظمة التهوية، وشبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي تُدار بعقلية ترقيعية لا بمنطق التخطيط المستقبلي. وفي بعض الجامعات، يعاني الطلاب وأعضاء هيئة التدريس من بيئة تعليمية غير مهيأة بسبب تقاعس الإدارات الهندسية والخدمية أو نتيجة غياب الموارد والتخطيط السليم.

🔹عزيزي الكريم، من أبرز المشاكل التي تعاني منها هذه الإدارات، خاصة في الجامعات، هو اعتمادها المفرط على التقارير الورقية والمندوبين بدلاً من النزول الميداني الفعلي لمعاينة المشكلات عن قرب. كيف يمكن لمسؤول أن يدرك أبعاد مشكلة في قاعة دراسية وهو لم يزرها مطلقًا؟ كيف يمكن حل أزمة في شبكة المياه أو الكهرباء اعتمادًا على تقرير مكتوب لا يعكس الصورة الحقيقية؟ في كثير من الحالات، يكتفي مسؤولو الإدارات الهندسية والخدمية بالجلوس في مكاتبهم وتلقي التقارير من المندوبين الذين قد لا يمتلكون الدراية الفنية الكاملة. والنتيجة؟ قرارات مبنية على معلومات ناقصة وحلول غير فعالة تؤدي إلى استمرار المشكلات بدلاً من حلها.

🔹أحبتي، من المفارقات العجيبة أن الإدارات الهندسية نفسها تُدار بعقلية إدارية متصلبة لا تدرك أن الهندسة والخدمات مجال متغير ومتطور باستمرار. في كثير من المؤسسات، لا يتاح لمهندسي الإدارة الهندسية أي فرصة للتطوير المهني أو الاطلاع على أحدث التقنيات. يتم تقييدهم بالروتين وتقزيم أدوارهم في تنفيذ المهام الإجرائية فقط، بدلاً من تمكينهم من قيادة التحول في البنية التحتية والتشغيل. وفي حالات أخرى، تُتخذ القرارات الهندسية والخدمية من قبل إداريين لا يمتلكون الخلفية الفنية الكافية، مما يؤدي إلى مشروعات فاشلة أو اختيارات غير مناسبة تكلف المؤسسة أموالًا طائلة دون تحقيق العائد المطلوب.

🔹إذا أردنا تطوير مؤسساتنا، فلا بد أن نبدأ من القواعد الأساسية، وأهمها إعادة تعريف دور الإدارات الهندسية والخدمية ومنحها المكانة التي تستحقها. المطلوب ليس فقط توفير الموارد، بل أيضًا إحداث تغيير في الذهنية الإدارية التي تتعامل مع هذا القطاع. الحلول الممكنة تبدأ بفرض ثقافة الزيارات الميدانية كجزء أساسي من عمل الإدارات الهندسية، وإلغاء الاعتماد الكلي على التقارير الورقية. كما يجب إشراك الإدارات الهندسية في عملية التخطيط الاستراتيجي بدلاً من جعلها جهة تنفيذية فقط، إلى جانب تطوير الكوادر الهندسية والإدارية عبر الدورات التدريبية والاطلاع المستمر على أحدث التقنيات في مجال البنية التحتية والخدمات. ولا بد من تبني منهجية الصيانة الوقائية بدلاً من سياسة (الإصلاح بعد وقوع الضرر) مع إلغاء المركزية المفرطة في اتخاذ القرارات الهندسية، وتمكين المهندسين والفنيين من تقديم رؤيتهم دون قيود بيروقراطية.

🔹قد يبدو هذا الحديث نقدًا قاسيًا، لكنه في جوهره نقد من أجل البناء لا من أجل الهدم. فنحن لا ننتقد الإدارات الهندسية والخدمية لذاتها، بل ننتقد طريقة إدارتها وتعامل المؤسسات معها. إذا لم نمنح هذه الإدارات دورها الحقيقي، فستظل مؤسساتنا تعاني من نفس المشكلات، وستستمر معاناة الطلاب والموظفين في بيئات غير صالحة للعمل والتعلم. فالإدارات الهندسية ليست مجرد (جهة تنفيذية)، بل هي (عقل استراتيجي) يجب أن يكون في قلب كل عملية تطوير. وإذا لم ندرك ذلك الآن، فسندفع الثمن لاحقًا وباهظًا.

إلى أن نلتقي…
24 يناير 2025م

اضغط هنا للإنضمام الي مجموعاتنا في واتساب

مقالات ذات صلة

IMG 20241210 WA0015

عودة مهرجان القرآن الكريم نور في ظلمات الحرب

77776

الشرق الأوسط على مفترق طرق

IMG 20241210 WA0015

الشهادة السودانية الثانوية: تحدٍ يكتبه التاريخ

IMG 20241210 WA0015

د. إسماعيل الحكيم يكتب – العقوبات الأمريكية على حميدتي…إعادة تشكيل موازين القوة