رأي إعلامي
أ/شاذلي عبدالسلام محمد
حين يصبح الوطن طيفا باهتا
في لحظة يختلط فيها الدم بالتراب، ويصير الوطن ساحة تتنازعها المصالح، تطرح الأسئلة الحقيقية أيهما أولى البقاء أم الشرعية؟ هل يمكن الحديث عن الديمقراطية في ظل غياب الدولة نفسها؟ هل يعقل أن ترفع شعارات سياسية ودعوة لتكوين حكومة وولاءات حزبية في بلد يتمزق تحت نيران البنادق؟….
إن الحديث عن الشرعية وسط الدمار يشبه النقاش حول ترتيب مقاعد السفينة وهي تغرق فمفهوم الشرعية ذاته يتطلب دولة قائمة، ونظاما مؤسسيا قادرا على حماية هذا المفهوم من التشظي لكن ما نشهده اليوم في السودان هو غياب للدولة بمعناها الحديث وتحوّلها إلى كيانات متصارعة تحكمها الميليشيات، وتحركها الأجندات الخارجية والمصالح الضيقة……
احبتي في مثل هذه الظروف، يصبح الاستمرار في مناقشة الشرعية نوعا من الترف السياسي الذي لا يراعي حقيقة الواقع فالذين ينادون بالحكومة المدنية في مثل هذا المناخ إما أنهم منفصلون عن الواقع أو أنهم يدفعون ببلد ممزق نحو مرحلة أخرى من الفوضى المقنعة بالديمقراطية فكيف يمكن الحديث عن حكومة مدنية بينما الخرائط الجغرافية نفسها غير مستقرة؟ كيف نؤسس لشرعية في ظل انعدام الأمن والاستقرار؟…..
عزيزي الكريم إن الظروف الراهنة تحتم على الجميع إعادة النظر في مفهوم “الحكومة المدنية” فالانتقال لا يكون بالقفز نحو الصناديق قبل استقرار الأرضية التي ستقام عليها الدولة والدولة لا تبنى على الفوضى أو الخطابات العاطفية، بل تحتاج إلى استقرار حقيقي يسمح بإعادة بناء المؤسسات وحماية الحدود وضبط الأمن……
لذلك من المنطقي أن تكون المرحلة القادمة ذات طابع عسكري ليس بالمفهوم التقليدي للديكتاتورية العسكرية، وإنما بمفهوم إدارة المرحلة من خلال قوة قادرة على ضبط الأمن، وإعادة ترتيب المشهد السياسي وضمان عدم انزلاق السودان إلى مرحلة اللاعودة…..
لكن هنا يبرز سؤال آخر أكثر خطورة هل نملك فعلا هذه القوة؟ هل الجيش السوداني اليوم قادر على القيام بهذا الدور، أم أنه نفسه بات جزءا من التشظي الحاصل؟…..
الرهان على المؤسسة العسكرية يجب أن يكون رهانا مشروطا بإصلاحها أولا وإعادة تعريف دورها لتكون مؤسسة وطنية لا طرفا في الصراع لا يمكن أن تكون المؤسسة العسكرية جزءا من الحل إذا كانت هي ذاتها جزءا من الأزمة….
المشكلة في السودان ليست في من يحكم بقدر ما هي في غياب المشروع الوطني ذاته لا يكفي أن نطالب بمرحلة عسكرية انتقالية بل يجب أن نسأل ما الذي سيحدث بعد ذلك؟ كيف سنضمن أن لا تتحول المرحلة المؤقتة إلى مرحلة دائمة؟ كيف نضمن ألا يكون العسكر جزءا من الصراع السياسي القادم؟….
عزيزي القارئ الهدف من أي انتقال عسكري ليس خلق سلطة جديدة، بل التمهيد لنقل الدولة إلى مرحلة أكثر استقرارا ولتحقيق ذلك يجب أن يكون هناك جدول زمني واضح وخارطة طريق محددة تنتهي بتأسيس نظام سياسي قادر على إدارة البلاد بطريقة تعكس إرادة الناس لا إرادة البنادق….
قد تبدو هذه الدعوة للعسكرة وكأنها تناقض مع المبادئ الديمقراطية، لكنها في الحقيقة مواجهة للواقع كما هو وليس كما ينبغي أن يكون في ظل الفوضى، يكون البديل الوحيد هو الاستقرار، حتى لو جاء مؤقتا عبر قوة تفرض النظام بالقوة…..
لكن علينا أن نكون حذرين فالتاريخ مليء بالأمثلة التي تحولت فيها المراحل الانتقالية العسكرية إلى أنظمة دائمة بل وإلى ديكتاتوريات لم تخرج منها الشعوب إلا بعد عقود من القمع والمعاناة لذلك فإن قبولنا بهذا الطرح يجب أن يكون قبولا حذرا قائما على المصلحة الوطنية، لا على الشعارات التي تخدم مصالح فئة بعينها….
ختاما السودان اليوم يقف على حافة هاوية سحيقة وما تبقى من الدولة يتآكل ببطء وإن الاستمرار في الحديث عن الانتخابات والشرعية في ظل هذا الوضع هو هروب من الحقيقة وتأجيل لانفجار أكبر و الحل ليس في شعارات جوفاء بل في قرارات جريئة تعترف بأن المرحلة القادمة ليست مرحلة ديمقراطية بل مرحلة إنقاذ وطني تتطلب قوة قادرة على فرض الاستقرار وإعادة بناء الدولة من تحت الركام…..
لكن هذا لا يعني أن يكون الحل عسكريا إلى الأبد فكما أن الديمقراطية لا تقام في ظل الفوضى فإن الحكم العسكري لا يجب أن يكون أكثر من مرحلة انتقالية تنهي الفوضى ولا تخلق استبدادا جديدا الخيار ليس بين العسكرة والديمقراطية بل بين الفوضى والنظام والمطلوب الآن ليس التمسك بالمثاليات بل إنقاذ ما تبقى من وطن…..
الي ان نلتقي….
٢٦ فبراير ٢٠٢٥م
اضغط هنا للإنضمام الي مجموعاتنا في واتساب