شاذلي عبدالسلام محمد يكتب.. فلسفة العطاء.. عندما تتحول المؤسسات إلى عائلات

شاذلي عبدالسلام محمد

رأي إعلامي

حين يكون العطاء فلسفة

يحكى أن رجلًا كان يعبر صحراء قاحلة نفد منه الماء وزاده، وأصبح على وشك الاستسلام لقسوة الرمال، حين لمح في الأفق شجرة وحيدة يقف عند جذعها شيخ مسن يحمل قربة ماء. اقترب منه الرجل المرهق وطلب رشفة تروي ظمأه، فما كان من الشيخ إلا أن منحه القربة بأكملها، قائلًا: “ما أعطيتك إلا ما وهب لي يومًا، فالعطايا تكتمل حين ترد لغيرنا.”

عزيزي القارئ، هذه القصة البسيطة تختزل فلسفة العطاء الحقيقي، العطاء الذي لا يقاس بالأرقام بل بمقدار ما يحدثه من فرق في حياة الآخرين. وما أروع أن نجد هذه الفلسفة تتجسد واقعًا في كل خطوة تتخذها حكومة ولاية نهر النيل وإدارة جامعة وادي النيل ونقابة العاملين في دعم العاملين والوقوف إلى جانبهم، ليس فقط بالكلمات، بل بالفعل الصادق الذي يجعل الحياة أكثر رحابة وأقل قسوة.

رمضان.. شهر العطاء والتكافل

أحبتي، حين يأتي شهر رمضان حيث الجوع يعلمنا قيمة اللقمة، والعطش يذكرنا بمعاناة العطشى، تصبح أي بادرة دعم ليست مجرد مبادرة، بل مسؤولية أخلاقية تعيد تعريف معنى التضامن الإنساني. وفي هذا النهج، كان لقرار إدارة الجامعة التكفل بالقسط الأول من سلة رمضان أثر بالغ، ليس فقط على جيوب العاملين، ولكن على قلوبهم أيضًا. فهو لم يكن مجرد إعفاء مالي، بل رسالة واضحة بأن هناك من يشعر بهم، من يضع معاناتهم في اعتباره، ومن يؤمن بأن العمل في الجامعة ليس علاقة تعاقدية جافة، بل رابطة اجتماعية وإنسانية.

وحين ننظر إلى دور نقابة العاملين، نجد أنها لم تكن مجرد وسيط إداري، بل كانت صوت العاملين، همزة الوصل بين تطلعاتهم وواقعهم، تعمل بلا كلل لتوفير ما يعينهم في هذا الشهر الفضيل، وتحرص على ضمان العدالة في التوزيع والتخفيف من الأعباء المعيشية التي أثقلت كاهل الجميع. إن تخصيص جزء من تكلفة الترحيل والعتالة والتنسيق الدقيق لتوزيع السلة الغذائية ليس مجرد تفصيل لوجستي، بل نموذج يحتذى به في الإدارة المسؤولة التي تدرك أن العدل ليس فقط في منح الحقوق، بل في تسهيل وصولها إلى مستحقيها بأيسر السبل.

العطاء.. مسؤولية والتزام

عزيزي الكريم، إن كان الشكر فضيلة، فهو هنا واجب لا يمكن تجاوزه. فلإدارة الجامعة التي لم تتوان عن تقديم يد العون، نرفع القبعات تقديرًا لموقفها المشرف الذي يعكس إدراكها العميق بأن المؤسسات لا تُبنى فقط بالخطط والموازنات، بل بتكاتف أفرادها وشعورهم بالأمان والاستقرار.

لحكومة ولاية نهر النيل، التي لم تغب عن مشهد الدعم، نقدم عرفانًا صادقًا لدورها في تيسير هذه الجهود والتأكد من وصولها إلى مستحقيها.

وللنقابة، التي كانت الجسر الذي عبرت عليه هذه المبادرات إلى أرض الواقع، نؤكد أن جهودها لم تمر دون أثر، وأن ما قامت به سيظل محفورًا في ذاكرة كل من استفاد منه.

نحو استدامة العطاء

ورغم هذا الامتنان، يبقى السؤال الأهم: كيف نجعل من هذه المبادرات نموذجًا مستدامًا؟ كيف ننتقل من تقديم العون عند الحاجة إلى خلق نظام يضمن حياة كريمة للعاملين بشكل دائم؟

الحل يكمن في تبني استراتيجيات طويلة المدى، تشمل:
برامج تمويل مستدامة
تعاون أوسع بين المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص
توسيع نطاق الخدمات الاجتماعية

بحيث يصبح الدعم ليس مجرد استجابة ظرفية، بل جزءًا من البنية المؤسسية.

العطاء.. قيمة إنسانية تعزز الانتماء

العطاء ليس مجرد فعل مادي محصور في لحظة معينة، بل هو قيمة إنسانية تعيد تشكيل العلاقات بين الأفراد والمؤسسات، وتبني جسورًا من الثقة والتقدير.

حين يشعر العامل بأن مؤسسته تضع رفاهيته في أولوياتها، ينمو لديه إحساس عميق بالانتماء، ويتحول العمل من مجرد التزام وظيفي إلى رسالة يؤديها بإخلاص وحب.

وحين تتجسد المسؤولية المجتمعية في قرارات ملموسة، كما فعلت إدارة جامعة وادي النيل ونقابة العاملين وحكومة ولاية نهر النيل، فإن ذلك يعزز مناخًا من التعاون والإيجابية داخل بيئة العمل، ويخلق نموذجًا يحتذى به في مؤسسات أخرى.

فليس هناك ما هو أسمى من أن يشعر الإنسان بأنه ليس وحده في مواجهة التحديات، وأن هناك من يفكر فيه ويعمل من أجله.

دروس من نموذج التكافل المؤسسي

إذا تأملنا هذا النموذج الراقي من التكافل المؤسسي، نجد أنه يحمل في طياته العديد من الدروس التي يجب أن نستلهمها ونطبقها في مجالات أخرى:

المؤسسات ليست مجرد هياكل، بل منظومات إنسانية، حين يُنظر إلى الموظفين والعاملين على أنهم شركاء في النجاح وليسوا مجرد أرقام في سجلات التوظيف، يصبح العطاء والتعاون سلوكًا طبيعيًا داخل المؤسسة.

العطاء ليس مشروطًا، لكنه يثمر ولاءً وإخلاصًا، فعندما يشعر العامل بأن مؤسسته تقف بجانبه في وقت الحاجة، يزداد التزامه تجاهها، ويصبح أكثر تفانيًا في عمله.

التضامن المؤسسي يخلق مناخًا إيجابيًا، فعندما تكون هناك مبادرات ملموسة تهدف إلى تحسين حياة العاملين، ينعكس ذلك على مستوى الرضا الوظيفي، ويزيد من الإنتاجية والروح المعنوية داخل بيئة العمل.

المسؤولية الاجتماعية ليست ترفًا، بل ضرورة، فالمؤسسات التي تضع البعد الإنساني والاجتماعي ضمن استراتيجياتها، تكون أكثر استدامة وتأثيرًا على المدى الطويل.

ختامًا

ربما كان الشيخ في قصتنا الأولى مجرد عابر سبيل، لكن أثر عطائه امتد ليغير حياة رجل كان بحاجة إلى فرصة جديدة. وهكذا هو العطاء الحقيقي، لا ينتهي عند منحه، بل يمتد أثره في دوائر تتسع بمرور الزمن.

فشكرًا لكل يد امتدت لتخفيف العبء، ولكل عقل خطط ليرفع المعاناة، ولكل قلب شعر بغيره قبل أن يشعر بنفسه.

إن ما قدمته جامعة وادي النيل، وحكومة ولاية نهر النيل، والنقابة، ليس مجرد دعم مالي، بل درس في الإنسانية، وإدراك أن المؤسسات ليست مباني، بل بشر.

وحين يكون البشر بخير، تكون المؤسسات بخير…

إلى أن نلتقي…

١٥ فبراير ٢٠٢٥م

اضغط هنا للإنضمام الي مجموعاتنا في واتساب

مقالات ذات صلة

شاذلي عبدالسلام محمد

جلد ما جلدك جر فيهو الشوك – أ/ شاذلي عبدالسلام محمد

شاذلي عبدالسلام محمد

شاذلي عبدالسلام محمد يكتب.. الوثائق لا تصنع الجيوش… والسلطة تُحسم في الميدان

شاذلي عبدالسلام محمد

نهاية المباراة… وبداية المجد – أ/شاذلي عبدالسلام محمد

اسماعيل الحكيم

د. إسماعيل الحكيم يكتب.. الأحزاب السودانية بين البقاء والفناء السياسي