الإعلام بوابة العقل بين الوعي والإيحاء – أ/شاذلي عبدالسلام محمد

شاذلي عبدالسلام محمد

رأي إعلامي

أ/شاذلي عبدالسلام محمد

الإعلام بوابة العقل بين الوعي والإيحاء

يروى أن فيلسوفا قديما سأل طلابه ذات يوم “لو ولد إنسان في كهف مظلم ولم ير النور قط ثم أخرجناه إلى الشمس فجأة فكيف سيرى العالم؟” أجاب أحدهم “سيبهره النور لكنه سيشعر بالارتباك وربما لن يصدق أن هذا هو الواقع الحقيقي” ابتسم الفيلسوف وقال “وكذلك عقولنا إذا عاشت طويلا في ظلال الأوهام فستجد صعوبة في تمييز النور حين تراه”….

في فلسفة العقل لطالما تساءل المفكرون عن طبيعة الوعي هل هو انعكاس موضوعي للواقع أم بناء ذهني تهيمن عليه القوى الخارجية؟ في عصر الإعلام الرقمي يتجلى هذا التساؤل في أبهى صوره إذ باتت الوسائط الإعلامية تمارس دورا أكثر تعقيدا من مجرد نقل المعلومة بل أصبحت تصوغ الإدراك ذاته، توجه الانفعالات وتعيد تشكيل السلوك البشري وفق هندسة نفسية خفية…..

لقد أصبح الإعلام أشبه بمختبر نفسي ضخم يتم فيه اختبار مدى قدرة الإنسان على التفاعل مع الواقع المعاد إنتاجه لا الواقع كما هو فإذا كان علم النفس التقليدي يدرس السلوك في بيئته الطبيعية فإن الإعلام الرقمي خلق بيئة جديدة تماما عالما افتراضيا يستبدل فيه الإنسان الحواس المباشرة بالمصفوفات الرقمية ويعيد فيه بناء هويته من خلال الصور والكلمات وإننا لا نرى العالم الآن بأعيننا فقط بل نراه بعد أن يمر عبر عدسات الإعلام فتعاد صياغته ويكيف مع الأجندات ويقدم لنا بحلة مهيأة للتأثير في عواطفنا وعقولنا على حد سواء…..

في هذا السياق لا يمكن التعامل مع الإعلام باعتباره وسيطا محايدا فالمحتوى الإعلامي ليس مجرد سرد للوقائع بل هو نص مشحون بالقيم، مؤطر بالسياقات النفسية والاجتماعية والسياسية التي تنتج المعنى وهنا يأتي دور علم النفس الإعلامي الذي يدرس كيف تؤثر الرسائل الإعلامية على الأفراد وكيف توجه قناعاتهم بل حتى كيف تخلق لديهم احتياجات جديدة لم يكونوا يدركونها من قبل فالإعلان على سبيل المثال لا يبيع سلعة فحسب بل يبيع رغبة يخلق إحساسا بالنقص ثم يقترح المنتج كحل سحري والأخبار لا تنقل الحدث فحسب بل تصوغه بطريقة تثير الانفعالات، وتعزز توجهات معينة على حساب أخرى…

عزيزي القارئ يدرك الإعلاميون المحترفون هذه الحقيقة جيدا فهم لا يختارون الكلمات والصور اعتباطا بل يعتمدون على أسس نفسية راسخة يدركون أن الإنسان لا يستجيب للمنطق البحت بقدر ما يستجيب للعاطفة وأن الإقناع لا يتم فقط عبر تقديم الأدلة بل عبر خلق ارتباطات ذهنية تجعل الفكرة تتسلل إلى العقل اللاواعي بسلاسة ولهذا نجد أن الخطابات الإعلامية الناجحة هي تلك التي توظف الرموز والمجازات والصور المؤثرة تلك التي تلامس اللاوعي أكثر مما تخاطب المنطق الواعي….

لكن هل يعني ذلك أن الإعلام أداة تلاعب فقط؟ ليس بالضرورة فكما يحمل الإعلام إمكانيات الإيحاء والتوجيه فإنه يمتلك أيضا القدرة على التنوير على إثارة الأسئلة بدلا من تلقين الأجوبة و على تحفيز التفكير بدلا من تقييده الفرق بين إعلام يحرر العقل وإعلام يقيده لا يكمن في الأدوات نفسها بل في الأهداف التي توظف من أجلها فالإعلام الواعي لا يخشى الشك لا يفرض رأيا واحدا بل يفسح المجال لتعدد الأصوات ويمنح المتلقي فرصة أن يكون شريكا في إنتاج المعنى لا مجرد مستهلك له….

إننا نعيش في عصر لم يعد فيه الإعلام مجرد نافذة على العالم بل أصبح العالم نفسه يتشكل عبره و إن الواقع الإعلامي لم يعد مجرد انعكاس للواقع الحقيقي بل صار واقعا بديلا ينافس الواقع نفسه لذا لم يعد السؤال المطروح “هل نصدق الإعلام أم لا؟” بل أصبح “كيف نتعامل معه بوعي؟” فكما أن الإعلام قادر على تضليل العقول فهو قادر أيضا على تحريرها والمفارقة الكبرى هي أن الاختيار ليس في يد الإعلام نفسه بل في أيدينا نحن بوصفنا متلقين هل نسمح لأنفسنا بأن نكون ضحايا للرسائل الإعلامية أم نصبح ناقدين لها قادرين على تمييز الخيط الرفيع بين الحقيقة والتلاعب؟….

احبتي لقد أصبح الإعلام بوابة العقل لكنه قد يكون بابا نحو المعرفة أو نافذة على الوهم والفرق بين الاثنين يكمن في وعينا هل نحن متلقون سلبيون أم فاعلون في تشكيل وعينا؟ وهل نستهلك الإعلام أم نعيد قراءته بعين ناقدة؟…

الي ان نلتقي…

٢٢ فبراير ٢٠٢٥م

اضغط هنا للإنضمام الي مجموعاتنا في واتساب

مقالات ذات صلة

IMG 20241210 WA0015

تضحياتهم طاقة بناء السودان: الشهداء والمصابون

شاذلي عبدالسلام محمد

شاذلي عبدالسلام محمد يكتب – حبر على ورق.. والبرهان أكبر من الخزانة

شاذلي عبدالسلام محمد

أ/ شاذلي عبدالسلام محمد يكتب.. الهندسة المغيبة: شريان المؤسسات المنسي

اسماعيل الحكيم

د. إسماعيل الحكيم يكتب.. ما وراء خطاب الفريق البرهان للقوى السياسية