أ/ شاذلي عبدالسلام محمد
الطغيان يحمل في داخله بذور فنائه، وكل ظلم يُزرع لابد أن يحصد صاحبه ثماره ولو بعد حين…
لم يكن “جلحة” سوى ترس في آلة الخراب، أحد أدوات الموت التي أُطلقت لتسفك الدماء. ظن أنه بمنأى عن الحساب، وأن سيفه الذي أغرق الأرض في الفوضى سيحميه إلى الأبد، لكنه اليوم يُصفَّى بيد من كان معهم بالأمس. الأحداث تكشف أن الطغاة ليسوا بحاجة إلى أعداء من الخارج، لأنهم يحملون في دواخلهم نار فنائهم…
في شرق النيل، حيث تتكلم الرصاصات لغة الفوضى، اندلع قتال عنيف بين جنود الميليشيا ذاتها، بعد أن تحولت البنادق إلى صدور بعضها البعض، في مشهد يُعيد إلى الأذهان حكمة قديمة: “من عاش بالسيف، مات بالسيف”.
كم من مرة ظن الطغاة أنهم خالدون؟ كم من مجرم استباح الدماء، ثم انتهى جثة بلا قيمة طافية على صفحة نهر أو مدفونة في حفرة بلا شاهد؟ التاريخ لا يرحم من يعتقدون أنهم فوق قوانينه، وما يحدث اليوم في شرق النيل ليس إلا صفحة جديدة من كتاب قديم عنوانه الخيانة بين المجرمين أمر حتمي.
عندما يغيب العدل، يصبح القوي وحشًا، لكنه لا يدرك أن الوحوش تأكل بعضها. لطالما ظن جنود الميليشيا أنهم إخوة السلاح، شركاء في الجريمة، لكنهم اليوم يدركون أنه لا شراكة في عالم الفوضى، وأن المجرم حين يفرغ من خصومه يجد في رفاقه أعداء جددا.
الميليشيات التي سفكت الدماء بلا حساب، والتي اعتقدت أن البندقية هي من تحكم، تجد نفسها اليوم أمام حقيقة مرعبة: لا ولاء في عالم الجريمة، ولا أخوة بين القتلة، إنهم كالوحوش الجائعة تنهش بعضها عندما ينضب الطعام.
فما الذي تبقى إذن من المشروع الذي حملوه؟ لا شيء سوى الخراب الذي زرعوه، والذي لم يعد يفرّق بين ضحاياه، فهو الآن يبتلعهم كما ابتلعوا الأبرياء بالأمس.
عندما تُراق الدماء ظلمًا، فإن الأرض تحفظ الأسماء وتعيد الحسابات ولو بعد حين. كل الذين ظنوا أن بوسعهم ترويع الناس، وأن القتل بلا حساب يمكن أن يستمر إلى الأبد، يجدون أنفسهم اليوم في مواجهة مصير لم يحسبوه: لا أعداء لهم سوى أنفسهم، لا قاتل لهم إلا من كانوا يقاتلون معهم بالأمس، ولا قبر ينتظرهم إلا ذاك الذي حفروه لغيرهم من قبل.
اليوم، لم يعد السؤال من سيحكم الخراب؟ بل: كم من الوقت قبل أن يبتلع الخراب آخر الناجين؟
الدائرة تدور، لكنها لا تعود إلى نقطة البداية، بل إلى نقطة الحساب… كل من حمل السلاح ليقتل الأبرياء سيجد نفسه في مواجهة نفس السلاح، وكل من استباح الدماء لن يجد أحدًا يبكي عليه حين يسقط. وهذا قانون التاريخ، وسنة الحياة، وحكم العدالة التي لا تخطئ، حتى وإن تأخرت قليلا.
إلى السماء ذات البروج… حيث تُكتب نهايات الظالمين، وحيث لا تنجو أمة ارتضت أن تحكمها الفوضى، ولا يسلم قاتل من طعنات رفاقه في آخر الطريق…
29 يناير 2025م