دهاليز السياسة وصناعة المواقف
رأي إعلامي
أ/ شاذلي عبدالسلام محمد
عندما يتحرك زعيم بحجم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ملف معقد كالأزمة السودانية، فإن هذا التحرك لا يأتي عشوائيًا أو بدوافع آنية. فالسياسة في مثل هذه القضايا ليست فعلًا منفردًا، بل هي لعبة متقنة تعتمد على إشارات ورضا من الأطراف ذات الصلة. دعوة أردوغان لرئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان للجلوس على طاولة الحوار مع دولة الإمارات لا يمكن قراءتها بمعزل عن الضوء الأخضر الإماراتي. السؤال الجوهري هنا هو: لماذا تتحرك الإمارات الآن؟ ولماذا منحت تركيا هذا الدور الوسيط؟ وما الذي تأمل تحقيقه من هذه الخطوة؟
عزيزي القارئ، ليس من طبيعة السياسة الدولية أن يتحرك وسيط دون الحصول على موافقة الأطراف الرئيسية. التحرك التركي كان بالتأكيد مسبوقًا بتفاهمات خلف الكواليس مع الجانب الإماراتي. بيان الخارجية الإماراتية الذي صدر مرحبًا بالدعوة التركية لم يكن مجرد رد فعل على خطوة أردوغان، بل يعكس استراتيجية محسوبة تهدف إلى إدارة الأزمة السودانية من زاوية جديدة.
التوقيت والظروف المحيطة
التوقيت الذي جاء فيه هذا البيان ليس صدفة. فالسودان يعيش لحظة مفصلية مع استمرار الحرب وعدم وجود أفق لحل سياسي. الإمارات، بحكم موقعها الجغرافي ودورها الإقليمي، تدرك أن استمرار الحرب يشكل تهديدًا لا يقتصر على السودان وحده، بل يمتد تأثيره إلى الإقليم بأسره، مما يستوجب إعادة ترتيب الأوراق.
الموقف السوداني وتناقض الخطاب
من جانب السودان، كان الموقف متناقضًا إلى حد كبير بين القنوات الرسمية والخاصة. في حين ظهرت رسائل إيجابية توحي بقبول التفاوض دون شروط مسبقة، فإن تصريحات وزير الخارجية علي يوسف في الساحة الإعلامية كانت مختلفة تمامًا، حيث وضع شروطًا مسبقة كانت هي ذاتها التي استخدمها السودان لتبرير رفضه مشاركة الإمارات في مفاوضات سويسرا. هذا التناقض يعكس حالة من الارتباك داخل القيادة السودانية، فالبرهان الذي يحاول لعب دور القائد الحازم يبدو وكأنه يمسك العصا من المنتصف، مترددًا بين الإذعان للضغوط الدولية وبين الاحتفاظ بولاء الحلفاء المحليين الذين يرون في استمرار الحرب مصلحة لهم.
البيان الإماراتي كخطوة استباقية
بيان الخارجية الإماراتية لم يكن مجرد رد فعل على اتصال أردوغان بالبرهان، بل حمل أكثر من رسالة سياسية عميقة. أولًا، رحبت الإمارات بالدعوة التركية مما يعكس مرونة دبلوماسية واستعدادًا لفتح قنوات جديدة للحوار. ثانيًا، أعادت الإمارات التذكير بموقف السودان من مفاوضات سويسرا في إشارة ذكية إلى أن البرهان وحكومته يتحملون مسؤولية تعطيل العملية السلمية.
الإمارات وتركيا: التعاون في الأزمة السودانية
البيان يمكن اعتباره خطوة استباقية تهدف إلى نقل الكرة إلى ملعب السودان. فالإمارات، بترحيبها بالدعوة التركية، أظهرت استعدادها للتفاوض، لكنها في الوقت ذاته وضعت السودان أمام اختبار حقيقي: هل سيقبل البرهان بفتح صفحة جديدة مع الإمارات أم سيظل أسير حساباته الداخلية؟
المعضلة السياسية للبرهان
البرهان يواجه معضلة سياسية مركبة. فمن جهة، يدرك أن استمرار الحرب ينهك البلاد ويعزل السودان دوليًا. ومن جهة أخرى، يجد نفسه مضطرًا للحفاظ على توازنات داخلية معقدة مع حلفائه العسكريين والسياسيين الذين يراهنون على الحرب كوسيلة لتعزيز نفوذهم. التناقض في خطاب البرهان يعكس هذه المعضلة بوضوح، ففي حين أبدى موقفًا إيجابيًا تجاه الوساطة التركية عبر القنوات الدبلوماسية، جاءت تصريحاته الجماهيرية لتزيد الغموض، حيث رفض التفاوض دون أن يحدد ما إذا كان يقصد مفاوضات سويسرا أم الدعوة الجديدة للحوار مع الإمارات.
تغير العلاقات الإقليمية
من زاوية أخرى، فإن التحرك التركي بالتنسيق مع الإمارات يعكس تغيرًا في طبيعة العلاقات بين البلدين. فتركيا والإمارات اللتان شهدت علاقاتهما توترات سابقة، يبدو أنهما وجدتا في الأزمة السودانية مجالًا للتعاون المشترك. هذا التعاون ليس فقط لمصلحة السودان، بل هو أيضًا جزء من إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية في مرحلة ما بعد الربيع العربي. الإمارات، التي تتمتع بعلاقات قوية مع القوى الإقليمية والدولية، تدرك أن تركيا هي اللاعب الأكثر تأثيرًا على المشهد السوداني حاليًا، ومن هنا فإن التنسيق مع أنقرة ليس مجرد خطوة تكتيكية بل استراتيجية تضمن للإمارات دورًا محوريًا في أي تسوية سياسية مستقبلية.
السيناريوهات القادمة
الآن، ماذا بعد بيان الإمارات وترحيبها بالدعوة التركية؟ السيناريوهات المتاحة تعتمد بشكل أساسي على موقف البرهان وحكومته.
قبول الدعوة والتفاوض: إذا قرر البرهان قبول الدعوة التركية والانخراط في حوار مباشر مع الإمارات، فإن ذلك قد يكون بداية لمسار جديد يهدف إلى إنهاء الحرب وإعادة الاستقرار للسودان. التردد والمماطلة: إذا استمر السودان في التردد وإرسال رسائل متناقضة، فقد تفقد الأطراف الدولية والإقليمية ثقتها في قدرة البرهان على إدارة الأزمة، مما يزيد من عزلة السودان. تصعيد عسكري داخلي: في حال رفض البرهان الحوار واختار استمرار الحرب، فإن ذلك قد يؤدي إلى تصعيد داخلي يهدد وحدة السودان. الخلاصة
ختامًا، السياسة لعبة صبر ودقة، وبيان الإمارات كان خطوة دبلوماسية محسوبة بدقة تعكس رؤية استراتيجية طويلة الأمد. السودان الآن أمام لحظة فارقة، حيث تتطلب الأزمة قيادة قادرة على اتخاذ قرارات شجاعة تتجاوز الحسابات الضيقة. الكرة في ملعب البرهان، لكن الوقت ليس في صالحه. فالتردد يعني استمرار معاناة الشعب السوداني وزيادة عزلة البلاد، بينما القبول بالحوار قد يكون المفتاح لإعادة بناء السودان على أسس جديدة. فهل يملك البرهان الجرأة لتغيير مسار التاريخ؟ أم سيظل رهينًا لحسابات قصيرة الأمد تضع السودان في مهب الريح؟ الإجابة قد لا تكون بعيدة، لكن المؤكد أن الأيام القادمة ستكشف الكثير.
إلى أن نلتقي…